سورة الإسراء - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


قوله تعالى: {ربكم الذي يزجي لكم الفُلْك} أي: يسيِّرها. قال الزجاج: يقال: زجيت الشيء، أي: قدمته.
قوله تعالى: {لتبتغوا من فضله} أي: في طلب التجارة.
وفي {من} ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها زائدة. والثاني: أنها للتبعيض. والثالث: أن المفعول محذوف، والتقدير: لتبتغوا من فضله الرزق والخير، ذكرهنَّ ابن الأنباري.
قوله تعالى: {إِنه كان بكم رحيماً} هذا الخطاب خاصّ للمؤمنين، ثم خاطب المشركين فقال: {وإِذا مسَّكم الضُّرُّ في البحر} يعني: خوفَ الغَرَقِ {ضلَّ مَنْ تَدْعُون} أي: يَضِلُّ من يدعون من الآلهة، إِلا الله تعالى. ويقال: ضَلَّ بمعنى غاب، يقال: ضَلَّ الماء في اللَّبَن: إِذا غاب، والمعنى: أنكم أخلصتم الدعاء لله، ونسيتم الأنداد. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل: {ضَلَّ مَنْ يَدْعُون} بالياء. {فلما نجّاكم إِلى البَرِّ أعرضتم} عن الإِيمان والإِخلاص {وكان الإِنسان} يعني الكافر {كفوراً} بنعمة ربِّه. {أفأمنتم} إِذا خرجتم من البحر {أن يَخْسِف بكم} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {نخسف بكم} {أو نرسل} {أن نعيدكم} {فنرسل} {فنغرقكم} بالنون في الكل. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بالياء في الكُلِّ. ومعنى {نخسف بكم جانب البر} أي: نغيبكم ونذهبكم في ناحية البر، والمعنى: إِن حكمي نافذ في البر نفوذه في البحر، {أو نرسل عليكم حاصباً} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أن الحاصب: حجارة من السماء، قاله قتادة.
والثاني: أنه الريح العاصف تحصب، قاله أبو عبيدة، وأنشد للفرزدق:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الريح تَضْرِبُهُم *** بِحَاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
وقال ابن قتيبة: الحاصب: الريح، سميت بذلك لأنها تَحْصِبُ، أي: ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الحاصب: الريح التي فيها الحصى. وإِنما قال في الريح: {حاصباً} ولم يقل: حاصبة لأنه وصْفٌ لزم الريح ولم يكن لها مذكَّر تنتقل إِليه في حال، فكان بمنزلة قولهم: حائض للمرأة، حين لم يُقَلْ: رجل حائض. قال: وفيه جواب آخر، وهو أن نعت الريح عُريٌ من علامة التأنيث، فأشبهت بذلك أسماء المذكَّر، كما قالوا: السماء أمطر، والأرض أنبت.
والثالث: أن الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {ثم لاتجدوا لكم وكيلاً} أي: مانعاً وناصراً.
قوله تعالى: {أم أمنتم أن يعيدكم فيه} أي: في البحر {تارة أخرى} أي: مَرَّة أُخرى، والجمع: تارات. {فيرسل عليكم قاصفاً من الريح} قال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء. قال ابن قتيبة: القاصف: الريح التي تقصف الشجر، أي: تكسره.
قوله تعالى: {فيُغْرِقكم} وقرأ أبو المتوكل، وأبو جعفر، وشيبة، ورويس: {فتغرقكم} بالتاء، وسكون الغين، وتخفيف الراء. وقرأ أبو الجوزاء، وأيوب: {فيغرِّقكم} بالياء، وفتح الغين، وتشديدها. وقرأ أبو رجاء مثله، إِلا أنه بالتاء، {بما كفرتم} أي: بكفركم حيث نجوتم في المرة الأولى، {ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعاً} قال ابن قتيبة: أي: من يتبع بدمائكم، أي: يطالبنا.
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ريح العذاب أربع، اثنتان في البر، واثنتان في البحر، فاللَّتان في البَرِّ: الصَّرْصَر، والعَقِيم، واللتان في البحر: العاصف، والقاصف.
قوله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدم} أي: فضَّلناهم. قال أبو عبيدة: و{كرَّمنا} أشد مبالغة من {أكرمنا}.
وللمفسرين فيما فُضِّلوا به أحد عشر قولاً.
أحدها: أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيك، وإِسرافيل، ومَلَك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المراد: المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإِيمان.
والثاني: أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إِلا ابن آدم فإنه يأكل بيده، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس. وقال بعض المفسرين: المراد بهذا التفضيل: أكلهم بأيديهم، ونظافة ما يقتاتونه، إِذ الجن يقتاتون العظام والرَّوث.
والثالث: فُضِّلوا بالعقل، روي عن ابن عباس.
والرابع: بالنطق والتمييز، قاله الضحاك.
والخامس: بتعديل القامة وامتدادها، قاله عطاء.
والسادس: بأن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم، قاله محمد بن كعب.
والسابع: فضِّلوا بالمطاعم واللَّذات في الدنيا، قاله زيد بن أسلم.
والثامن: بحسن الصورة، قاله يمان.
والتاسع: بتسليطهم على غيرهم من الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم، قاله محمد بن جرير.
والعاشر: بالأمر والنهي، ذكره الماوردي.
والحادي عشر: بأن جعلت اللِّحى للرجال، والذوائب للنساء، ذكره الثعلبي.
فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل، وفيهم الكافر المُهان؟
فالجواب من وجهين. أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرَم بالنعم الوافرة. والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصِّفة على جماعتهم، كقوله: {كنتم خير أُمة أُخرجت للناس} [آل عمران: 110].
قوله تعالى: {وحملناهم في البر} على أكباد رطبة، وهي: الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، {و} في {البحر} على أعواد يابسة، وهي: السفن. {ورزقناهم من الطيبات} فيه قولان:
أحدهما: الحلال. والثاني: المستطاب في الذوق.
قوله تعالى: {وفضَّلناهم على كثير ممن خلقْنا تفضيلاً} فيه قولان:
أحدهما: أنه على لفظه، وأنهم لم يفضَّلوا على سائر المخلوقات. وقد ذكرنا عن ابن عباس أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غيرِ طائفة من الملائكة. وقال غيره: بل الملائكة أفضل.
والثاني: أن معناه: وفضَّلناهم على جميع مَنْ خلقنا. والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع، كقوله: {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 223]. وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده».


قوله تعالى: {يوم ندعو} قال الزجاج: هو منصوب على معنى: اذكر {يوم ندعو كل أُناس بإمامهم} والمراد به: يوم القيامة. وقرأ الحسن البصري: {يوم يدعو} بالياء {كلَّ} بالنصب. وقرأ أبو عمران الجوني: {يوم يُدعى} بياء مرفوعة، وفتح العين، وبعدها ألف، {كلُّ} بالرفع.
وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال.
أحدها: أنه رئيسهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال: إِمام هدى أو إِمام ضلالة. والثاني: عملُهم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وأبوالعالية.
والثالث: نبيُّهم، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد في رواية.
والرابع: كتابُهم، قاله عكرمة، ومجاهد في رواية. ثم فيه قولان. أحدهما: أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم، قاله قتادة، ومقاتل. والثاني: كتابهم الذي أُنزل عليهم، قاله الضحاك، وابن زيد. فعلى القول الأول يقال: يا متَّبعي موسى، يا متَّبعي عيسى، يا متَّبعي محمَّدٍ؛ ويقال: يا متَّبعي رؤساء الضلالة. وعلى الثاني: يا من عمل كذا وكذا. وعلى الثالث: يا أُمَّة موسى، يا أُمَّة عيسى، يا أُمَّة محمد. وعلى الرابع: يا أهل التوراة، يا أهل الإِنجيل، يا أهل القرآن. أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا.
قوله تعالى: {فأولئك يقرؤون كتابهم} معناه: يقرؤون حسناتِهم، لأنهم أخذوا كتبهم بأيْمانهم.
قوله تعالى: {ولا يُظلمون فتيلاً} أي: لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل، وقد بيَّنَّاه في سورة [النساء: 49].
قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: {أعمى فهو في الآخرة أعمى} مفتوحتي الميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين. وقرأ أبو عمرو: {في هذه أعمى} بكسر الميم، {فهو في الآخرة أعمى} بفتحها.
وفي المشار إِليها ب {هذه} قولان:
أحدهما: أنها الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معنى الكلام خمسة أقوال.
أحدها: من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خَلْق الأشياء، فهو عمّا وُصِف له في الآخرة أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: من كان في الدنيا أعمى بالكفر، فهو في الآخرة أعمى، لأنه في الدنيا تُقبَل توبته، وفي الآخرة لا تُقبَل، قاله الحسن.
والثالث: من عمي عن آيات الله في الدنيا، فهو عن الذي غيِّب عنه من أمور الآخرة أشدّ عمىً.
والرابع: من عمي عن نِعَم الله التي بيَّنها في قوله: {ربُّكم الذي يزجي لكم الفُلْك في البحر} إِلى قوله: {تفضيلا} فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه، ذكرهما ابن الأنباري.
والخامس: من كان فيها أعمى عن الحُجَّة، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة، قاله أبو بكر الورّاق.
والثاني: أنها النِّعم. ثم في الكلام قولان:
أحدهما: من كان أعمى عن النِّعم التي تُرى وتُشاهَد، فهو في الآخرة التي لم تُر أعمى، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النِّعم المذكورة في قوله: {ولقد كرَّمنا بني آدم} ولم يؤدِّ شكرها، فهو فيما بينه وبين الله مما يُتقرَّب به إِليه أعمى {وأضل سبيلاً}، قاله السدي. قال أبو علي الفارسي: ومعنى قوله: {في الآخرة أعمى} أي: أشدُّ عمىً، لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عَمَاهُ بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إِلى الخروج من عماه. وقيل: معنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إِلى طريق الثواب، وهذا كلُّه من عمى القلب.
فإن قيل: لم قال: {فهو في الآخرة أعمى} ولم يقل: أشدُّ عمىً، لأن العمى خِلْقة بمنزلة الحُمرة، والزُّرقة، والعرب تقول: ما أشدَّ سواد زيد، وما أبْيَنَ زرقة عمرو، وقلَّما يقولون: ما أسود زيداً، وما أزرق عمراً؟
فالجواب: أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه شيء بعد شيء، فيخالف الخِلَقَ اللاّزِمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري.


قوله تعالى: {وإِن كادوا ليفتنونك} في سبب نزولها أربعة أقوال.
أحدها: أن وفد ثَقيف أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: متِّعنا باللات سَنة، وحرِّمْ وادينا كما حرَّمْتَ مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يُكثرون مسألتهم، وقالوا: إِنا نحب أن تعرِّف العرب فضلنا عليهم، فإن خشيتَ أن يقول العرب: أعطيتهم مالم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك؛ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وداخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا: أجِّلنا سنة، ثم نُسلم ونكسر أصنامنا، فهمَّ أن يؤجِّلهم، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نكفُّ عنك إِلا بأن تُلِمَّ بآلهتنا، ولو بأطراف أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لَكاره»؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل لا يجوز أن يُظَنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه همَّ أن يُنْظِرهم سنة، وكل ذلك مُحال في حَقِّه وفي حق الصحابة أنهم رَوَواْ عنه.
والثالث: أن قريشاً خَلَواْ برسول الله ليلةً إِلى الصباح يكلِّمونه ويفخِّمونه، ويقولون: أنت سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والرابع: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اطرد عنك سُقَاط الناس، ومواليهم، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبَسون الصوف، حتى نجالسَك ونسمعَ منك، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يستدعي به إِسلامهم، فنزلت هذه الآيات، حكاه الزجاج؛ قال: ومعنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت {إِن} واللام للتوكيد. قال المفسرون: وإِنما قال: {لَيفتنونك}، لأن في إِعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن.
قوله تعالى: {لتفتريَ} أي: لتختلقَ {علينا غيرَه} وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك، {وإِذاً} لو فعلت ذلك {لاتخذوك خليلاً} أي: والَوْكَ وصافَوْكَ.
قوله تعالى: {ولولا أن ثبَّتناك} على الحق، لِعِصمتنا إِياك {لقد كدتَ تركَن إِليهم} أي: هممتَ وقاربتَ أن تَميل إِلى مرادهم {شيئاً قليلاً} قال ابن عباس: وذلك حين سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيَّته. وقال ابن الأنباري: الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الباطن للمشركين، وتقديره: لقد كادوا يُركنونك إِليهم، وينسبون إِليك ما يشتهونه مما تكرهه، فنسب الفعل إِلى غير فاعله عند أمن اللَّبْس، كما يقول الرجل للرجل: كدت تقتل نفسَك اليوم، يريد: كدت تفعل فعلاً يقتلك غيرُك من أجله؛ فهذا من المجاز والاتساع. وشبيه بهذا قولُه:
{فلا تموتُنَّ إِلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132]، وقول القائل: لا أرينّكَ في هذا الموضع.
قوله تعالى: {إِذاً لأذقناك} المعنى: لو فعلت ذلك الشيء القليل {لأذقناك ضعف الحياة} أي: ضِعف عذاب الحياة {وضِعف} عذاب {الممات}، ومثله قول الشاعر:
نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ *** واسْتَبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
أي: أهل المجلس. وقال ابن عباس: ضِعْفَ عذاب الدنيا والآخرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً، ولكنه تخويف لأُمَّته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إِلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه.
قوله تعالى: {وإِن كادوا ليَسْتَفِزُّونك من الأرض} في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قَدِم المدينة، حسدته اليهود على مُقامه بالمدينة، وكرهوا قربه، فأتَوه، فقالوا: يا محمد أنبيٌ أنت؟ قال: نعم، قالوا: فوالله لقد علمتَ ما هذه بأرض الأنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، فان كنتَ نبياً فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشخص عن المدينة، فنزلت هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن غَنْم: لمّا قالت له اليهود هذا: صدَّق ما قالوا، وغزا غزوة تبوك لا يريد إِلا الشام، فلما بلغ تبوكَ، نزلت هذه الآية.
والثاني: أنهم المشركون أهل مكة هَمُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فأمره الله بالخروج، وأنزل هذه الآية إِخباراً عما هَمُّوا به، قاله الحسن، ومجاهد. وقال قتادة: هم أهل مكة باخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نُوظِروا، ولكنَّ الله كفَّهم عن إِخراجه حتى أمره بالخروج. وقيل: ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر. فعلى القول الأول، المشار إِليهم: اليهود، والأرض: المدينة. وعلى الثاني: هم المشركون، والأرض: مكة. وقد ذكرنا معنى {الاستفزاز} آنفاً [الاسراء: 64]، وقيل: المراد به هاهنا: القتل، ليخرجوه من الأرض كلِّها؛ روي عن الحسن.
قوله تعالى: {وإِذاً لا يَلْبَثون خَلفك} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: {خلفك}. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {خلافك}. قال الأخفش {خلافك} في معنى خلفك، والمعنى: لا يلبثون بعد خروجك {إِلا قليلاً} أي: لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما همُّوا به، فقتل صناديد المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا يَلْبَثون على خِلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض. وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل: {خُلاَّفُكَ} بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء.
قوله تعالى: {سُنَّة مَنْ قد أَرسلْنا} قال الفراء: نصب السُّنَّة على العذاب المُضْمَر، أي: يعذَّبوَن كسُنَّتنا فيمن أَرسلْنا. وقال الأخفش: المعنى: سَنّها سُنَّةً. وقال الزجاج: انتصب بمعنى {لا يلبثون} وتأويله: إِنّا سَنَنَّا هذه السُنَّة فيمن أَرسَلْنا قبلك أنهم إِذا أَخرجوا نبيَّهم أو قتلوه، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14